فصل: الباب الثالث من المقالة الثالثة في بيان المستندات وكتابة الملخصات وكيفية التعيين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الباب الثالث من المقالة الثالثة في بيان المستندات وكتابة الملخصات وكيفية التعيين:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول في بيان المستندات:

وهي التوقيع على القصص وما يجري مجراه وما يحتاج فيه إلى كتابة المستندات وهو على ضربين:
الضرب الأول السلطانيات:
وهي صنفان:
الصنف الأول: ما يصدر عن متولي ديوان الإنشاء:
كولايات النواب والقضاة وغيرهما من أرباب الوظائف والتواقيع التي تكتب في المسامحات والإطلاقات ومكاتبات البريد الخاصة بالأشغال السلطانية وأوراق الطريق وما يجري مجرى ذلك وجميعها معدوقةٌ بنظر صاحب ديوان الإنشاء. فما كان منها جليل الخطر كولايات النواب والقضاة وأكابر أرباب الوظائف والمكاتبات المتعلقة بمهمات السلطنة، فلا بد من مخاطبة صاحب ديوان الإنشاء فيها واعتماد ما يبرز به أمره. وما كان منها حقيراً بالنسبة إلى مخاطبة السلطان فيه استقل فيه بما يقتضيه رأيه.
ثم من ذلك ما يكتب به صاحب الديوان رقاعاً لطيفةً بخطه ويعينها على الكاتب الذي يكتب وتدفع إليه لتخلد عنده شاهداً له، كالولايات والمسامحات والإطلاقات والمكاتبات المتعلقة بأمور المملكة ونحو ذلك. ومن ذلك ما يبرز به أمر صاحب الديوان مشافهةً فيكتبه من غير شاهد عنده، وذلك في الأمور التي لا درك فيها على الكاتب، كتقاليد النواب وبعض المكاتبات، إذ لا تهمة تلحق كاتب الإنشاء في مثل ولاية نائبٍ كبيرٍ أو قاضٍ حفيل، لأن مثل ذلك لا يخفى على السلطان، فأشبه خطاب صاحب الديوان فيها الكاتب خطاب السلطان صاحب الديوان حيث لا شاهد عليه إلا الله تعالى، بخلاف الأمور التي يلحق كاتبها الدرك، فإنه لا بد في كتابتها من تخليد شاهدٍ. وكان الواجب أن لا يكتب حقيرٌ ولا جليلٌ إلا بشاهدٍ من صاحب الديوان، فإن الأمور تتراكم وتكثر، والإنسان معرضٌ للنسيان، وربما عرض إنكارٌ بسبب ما يكتبه الكاتب ونسيه صاحب الديوان فيكون الكاتب قد عرض نفسه لأمرٍ عظيمٍ. ولا يقاس الكاتب على صاحب الديوان في عدم أخذه شاهداً بخط السلطان، فإن صاحب الديوان هو المتصرف حقيقةً، والسلطان وكل جميع أمور المملكة إليه، فلا يتهم في شيء منها، بخلاف الكاتب.
وقد ذكر أبو الفضل الصوري في تذكرته أن المكتوب من الديوان إن كان مكاتبةً فالواجب أن يكون عنوانها بخط متولي الديوان، وإن كان منشوراً فالواجب أن يكون التاريخ بخطه ليدل على أنه وقف على المكتوب وأمضى حكمه ورضيه، ويكون ذلك قد قام مقام كتابة اسمه فيه. ثم قال: وقد كان الرسم بالعراق وفيه الكتاب الأفاضل أن يكتب الكتاب ما يكتبون ثم يقولون في آخره: وكتب فلان بن فلان باسم متولي ديوان الرسائب. وما ذكره عن أهل العراق قد ذكر نحوه أبو جعفر النحاس في صناعة الكتاب إلا أنه قد جعل بدل اسم متولس الديوان اسم الوزير فقال ويكتب في آخر الكتاب وكتب فلان بن فلان باسم الوزير واسم أبيه. وقد رأيت نسخاً عدةً من سجلات الخلفاء الفاطميين بالديار المصرية مستشهداً فيها اسم الوزير على النهج المذكور. على أنه كان الواجب أن يكون الاستشهاد في آخر كل كتابٍ باسم كاتبه الذي يكتبه ليعلم من كتبه، فإن الخطوط كثيرة التشابه، لا سيما وقد كثر كتاب الإنشاء في زماننا وخرجوا عن الحد، حتى أنه لم يعرف بعضهم بعضاً فضلاً عن أن يعرف خطه. وقد كان كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، إذا سجلوا عنه سجلاً أو نحوه كتب الكاتب في آخره وكتب فلان بن فلان. وهذه الرقعة التي كتبها النبي، صلى الله عليه وسلم، لتميم الداري بإقطاع قرًى من قرى الشام موجودةٌ بأيدي التميميين إلى الآن مستشهداً فيها بخط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وإنما عدلوا عن اسم الكاتب نفسه إلى اسم متولي الديوان أو الوزير استصغاراً للكاتب أن يستشهد للكاتب باسمه فيما يكتب به عن الخليفة. قال أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل: وقد قالوا إن أول من كتب في آخر الكتاب وكتب فلان بن فلان أبي بن كعبٍ رضي الله عنه.
الصنف الثاني: ما يصدر عن غير صاحب ديوان الإنشاء:
كالأمور التي يكتب بها من الدواوين السلطانية غير ديوان الإنشاء وتلتمس الكتب من ديوان الإنشاء على مقتضاها، كالمكاتبات الخاصة بتعلقات شيء من الدواوين المذكورة، وبعض التواقيع التي أصلها من ديوان الوزارة وينحصر ذلك في أربعة دواوين: الديوان الأول ديوان الوزارة: وهو أعظمها خطراً، وأجلها قدراً.
وقد جرت العادة أنه إذا دعت الضرورة إلى كتابة كتابٍ من ديوان الإنشاء يتعلق بديوان الوزارة أن تكتب به قائمةٌ من ديوان الوزارة في ورقةٍ ديوانية بما مثاله: رسم بالأمر الشريف شرفه الله تعالى وعظمه أن يكتب مثالٌ شريف إلى فلانٍ الفلاني بكذا وكذا. وكيفية وضع هذه القائمة أن يكون السطر الأول في رأس الورقة من الوجه الأول منها، وآخره شرفه الله تعالى وعظمه وبينه وبين السطر الثاني قدر إصبعين معترضين بياضاً، وباقي السطور مسترسلةٌ متقاربةٌ بقلم الرقاع، ويكتب الوزير في البياض الذي بين السطر الأول والثاني بقلم الثلث ما مثاله: يكتب. ويوجه بالقائمة إلى ديوان الإنشاء صحبة مديرٍ من ديوان الوزارة أو غيره، فيكتب على حاشيتها يكتب بذلك، ويعينها على بعض كتاب الإنشاء فيكتب مثالاُ بما فيها، ويخلد القائمة عنده شاهداً له، وربما خلدت بديوان الإنشاء في جملة ما يخلد في الأضابير شاهداً لديوان الإنشاء، والأول هو الأليق.
وإن كان الذي يكتب من ديوان الوزارة توقيعاً بإطلاقٍ أو نحوه مما أصله من ديوان الوزارة، كتب الوزير على حاشية قصة صاحبه ما مثاله يكتب بذلك، أو يوقع بذلك وتبعث إلى ديوان الإنشاء فيكتب عليها صاحب ديوان الإنشاء بالتعيين. ثم أن كان التوقيع ملصقاً بقصةٍ فذاك، وإلا خلد الكاتب القصة شاهداً عنده على ذلك، وربما كتب بالإطلاقات من ديوان الوزارة مربعات بخط مستوفي الصحبة.
الديوان الثاني ديوان الخاص: وهو في كتابة الأمثلة الشريفة على ما مر من كتابة القائمة ليخرج المثال على نظيرها، على ما تقدم في ديوان الوزارة، فتكتب القائمة على الحكم المتقدم من غير فرق، ويكتب ناظر الخاص عليها نظير كتابة الوزير السابقة، ويوجه إلى ديوان الإنشاء فيكتب عليها بالتعيين كما تقدم، ويخلد الكاتب القائمة عنده شاهداً له، أو تخلد بديوان الإنشاء على ما تقدم في ديوان الوزارة. ولا يكتب من ديوان الخاص تواقيع بإطلاقات ونحوها بل تكتب بها مراسيم مربعة في ورقٍ شامي بخط مباشري ديوان الخاص.
الديوان الثالث ديوان الإستدارية: وحكمه في ذلك حكم ديوان الخاص من غير فرق، ويكتب الإستدار عليها كم يكتب الوزير وناظر الخاص، ويبعث بها إلى ديوان الإنشاء، فيجري الحكم فيها على ما تقدم في الديوانين المذكورين.
الديوان الرابع ديوان الجيش: والذي يرد إلى ديوان الإنشاء منه ابتداءً هي المربعات التي تكتب بالإقطاعات لتخرج المناشير على نظيرها.
وصورتها أن يكتتب في نصف فرخةٍ مكسورة في قطع البلدي بعد البسملة الشريفة ما مثاله المرسوم بالأمر العالي، المولوي، السلطاني، الملكي، الفلاني، الفلاني، أعلاه الله تعالى وشرفه، وأنفذه وصرفه، أو أعلاه الله تعالى وأسماه، وشرفه وأمضاه، أن يقطع باسم فلانٍ الفلاني، أحد الأمراء المقدمين، أو الطبلخانات، أو العشرات، أو الخمسات بالمكان الفلاني، أو أحد المماليك السلطانية، أو مقدمي الحلقة، أو أجناد الحلقة، بالمكان الفلاني المرسوم استقراره في أمراء العشرات، أو الطلبخانات، أو المقدمين، أو نحو ذلك ما رسم له به الآن من الإقطاع. فإن كان أميراً قيل بعد ذلك: لخاصته ولمن يستخدمه من الأجناد الجياد للخدمة الشريفة، والبرك التام، والعدة الكاملة، بمقتضى المثال الشريف، أو الخط العالي الكافلي، أو بمقتضى الإشهاد المشمول بالخط الشريف، أو الخط الكافلي على نظير ما تقدم أو بمتقضى المربعة المكتتبة من المملكة الفلانية المشمولة بالخط الشريف إن كان أصله مربعةً من بعض الممالك وما أشبه ذلك. فإن كان أميراً ذكرت عدته على ما سيأتي في الكلام على المناشير في المقالة الخامسة. ثم يقال: حسب الأمر الشريف ويكمل التاريخ والحمد لله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويبعث بها إلى ديوان الإنشاء فيكتب عليها صاحب الديوان بالتعيين على بعض كتاب الإنشاء، فيكتبها ويخلد المربعة شاهداً عنده.
الضرب الثاني ما يتعلق بالكتب في المظالم والنظر فيه من وجهين:
الوجه الأول فيما يتعلق بالقصص:
وهي ترفع إلى ولاة الأمور بحكاية صورة الحال المتعلق بتلك الحاجة، وسميت قصصاً على سبيل المجاز، من حيث إن القصة اسم المحكي في الورقة لا لنفس الورقة. وربما سميت في الزمن القديم رقاعاً لصغر حجمها أخذاً من الرقعة في الثوب.
ثم الذي يجب في هذه القصص الإيجاز والاختصار مع تبليغ الغرض المطلوب والقرب من فهم المخاطب، فإنها متى كانت خارجةً عن الحد في الطول، أدت إلى الإضجار والسآمة المنفرين للرؤساء. وربما كان في ذلك جرمان الطالب ودفعه عن حاجته، إما للإعراض عنها استثقالاً، وإما لعدم فهم المقصود منها لطولها واختلاط بعض مقاصدها ببعض. وأما كونها مبلغةً للغرض المطلوب وفهم المخاطب، فلأنها إذا كانت بصدد الاختصار المجحف والتعقيد، نبا عنها فهم الرئيس ومجها سمعه، فإما أن يعرض عنها فيفوت على صاحبها المطلوب، وإما أن يسأل غيره عن معناها فيكون سبباً لتنزله عن عز الرياسة إلى ذل السؤال، وكلاهما غير مستحسن.
وقد جرت العادة في مثل ذلك أن يخلى من أول الورقة قليلاً، ويجعل لها هامش بحسب عرضها، ويبتدأ فيها بالبسملة ثم يكتب تحت أول البسملة: المملوك فلانٌ يقبل الأرض، وينهي كذا وكذا إلى آخر إنهائه، ثم يقال: وسؤاله كذا وكذا فإن كان السؤال للسلطان قال: وسؤاله من الصدقات الشريفة كذا وكذا وإن كان السؤال لغير السلطان قال: وسؤاله من الصدقات العميمة كذا وكذا. ثم إن كان المسؤول كتاباً، فإن كان عن السلطان قال: وسؤاله مثالٌ شريفٌ بكذا وكذا، وإن كان عن غير السلطان قال: مثالٌ كريمٌ بكذا وكذا ثم يقول إن شاء الله تعالى، ويحمد الله تعالى ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويحسبل. وربما أبدل لفظ المملوك بلفظ الفقير إلى الله تعالى. ويقال حينئذ بدل يقبل الأرض يبتهل إلى الله تعالى بالأدعية الصالحة أو يواصل بالأدعية الصالحة ونحو ذلك.
وقد جرت العادة في كتابه القصص أن صاحبها إن كان أميراً ونحوه كتب تحت البسملة الملكي الفلاني بلقب سلطانه، مخلياً بياضاً من جانبيها. على أنه قد تصدى لكتابة القصص من لا يفرق بين حسنها وقبيحها، ولا ينظر في دلالتها، ولا يراعي مدلولها، وذلك كنسة الزمان في أكثر أحواله.
قلت: وقد جرت عادة أكثر الناس في القصص أنه إذا فرغ الكاتب من كتابة القصة يقطع قليلاً من زاويتها اليمنى من الجهة السفلى، مستندين في ذلك إلى كراهة التربيع.
ومن غريب ما يحكى في ذلك أن بعض الوزراء قال يوماً بمجلس.......... وأنا وليت الوزارة رابع ربيع الأول سنة أربع وأربعين وأربعمائة فقال له بعض جلسائه: إن تفاءلت أنت به فقد تطيرنا نحن به. ولا شك أن مستندهم في ذلك التشاؤم بالتربيع في القران النجومي، ولا يعول عليه. وقد ورد أن حوض النبي، صلى الله عليه وسلم في القيامة زواياه على التربيع، ولولا أن التربيع أحسن الأشكال لما وضع عليه حوض النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني فيما يتعلق بالنظر في المظالم وما يكتب على القصص وما ينشأ عنها من المساءلات وغيرها:
وهو أمرٌ مهمٌّ، به يقع إنصاف المظلوم من الظالم، وخلاص المحق من المبطل، ونصرة الضعيف على القوي، وإقامة قوانين العدل في المملكة. وقد نبه أبو الفضل الصوري في تذكرته على جلالة هذا القدر وخطره، ثم قال: ومن المعلوم أن أكثر المتظلمين يصلون من أطراف المملكة ونواحيها، وفيهم الحرم والمنقطعات والأيتام والصعاليك، وكل من يفد منهم معتقدٌ أنه يصير إلى من ينصره ويكشف ظلامته ويعديه على خصمه. فيجب أن يتلقى كل منهم بالترحاب واللطف، ويندب لهم من يحفظ رقاعهم ويتنجز التوقيع فيها من غير التماس رشوة ولا فائدةٍ منهم، وأن تكون التوقيعات لهم شافيةً في معانيها، مستوعبةً لكشف ظلاماتهم، مؤذنةً بإنجاح طلباتهم.
قال أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل: كان المهدي يجلس للمظالم وتدخل القصص إليه، فارتشى بعض أصحابه بتقديم بعضها، فاتخذ بيتاً له شباكٌ حديدٌ على الطريق تطرح فيه القصص، وكان يدخله وحده فيأخذ ما يقع بيده من القصص أولاً فأولاً فيه لئلا يقدم بعضها على بعض.
قال: وقدم عليه رجل فتظلم فأنصفه فاستخفه الفرح حتى غشي عليه، فلما أفاق قال: ما حسبت أني أعيش حتى أرى هذا العدل فلما رأيته داخلني من السرور ما زال معه عقلي فقال له المهدي: كان الواجب أن ننصفك في بلدك، وكان قد صرف في نفقة طريقه عشرين ديناراً فأمر له بخمسين ديناراً وتحلل منه.
قال أبو الفضل الصوري: ومهما كان من الرقاع يحتاج إلى العرض على السلطان، عرضه عليه، وأحسن السفارة والتلطف فيه، ووقع بما يؤمر به، فقد تحدث في هذه الرقاع الأمور المهمة التي تنتفع بها الدولة، وتستضر بتأخير النظر فيها، ويفهم من طي هذه الرقاع من جور بعض الولاة والمستخدمين ما توجب السياسة صرفهم عما ولوه منها. ومهما كان منها مما يشك السلطان في صحته، ندب من يثق به للكشف مع رافعه، فإن صح قوله أنصف من خصمه، وإن بان تمحله قوبل بما يردع أمثاله عن الكذب والتمرد، ويعلم الولاة والمشارفون وسائر المستخدمين أن السلطان متفرغٌ للنظر في قصص الناس وشكاويهم، وقد نصب لذلك من يتفرغ له ويطالعه بالمهم منه فيكف أيديهم عن الظلم، ويحذرون سوء عاقبة فعلهم، ويقل المتظلمون قولاً واحداً، وتحسن سمعة الدولة بذلك فيكون لها به الجمال الكبير.
قلت: والذي يرفع من القصص في معنى ذلك في زماننا على ستة أنواع.
النوع الأول: منها ما يرفع إلى السلطان في آحاد الأيام:
وقد جرت العادة فيه أن يقرأ على السلطان: فما أمضاه منه كتب على ظهر القصة ما مثاله يكتب ثم تحمل إلى كاتب السر فيعينها على بعض كتاب الإنشاء، فيكتب بمقتضاها ويخلدها عنده شاهداً له.
النوع الثاني: ما يرفع لصاحب ديوان الإنشاء:
وقد جرت العادة في ذلك أن رافع القصة والمحتاج إلى الأمثلة الشريفة السلطانية في مهماته ومتعلقاته إن كان من الأعيان والمعتبرين كأحدٍ من الأمراء أو المماليك السلطانية وأكابر أرباب الأقلام، بعث بقصته لديوان الإنشاء، فيقف عليها صاحب ديوان الإنشاء ويتأملها وينظر ما تضمنته، فإن كان مما يحتاج فيه إلى مخاطبة السلطان ومؤامرته، أخذها ليقرأها عليه عند حضوره بين يديه، ويمتثل ما يأمر به فيها، فيكتب بمقتضاه، سواءٌ طابق سؤال السائل أم لا، يعينها على كاتب من كتاب الإنشاء، فيكتب بمقتضاها ويخلد القصة شاهداً عنده. وهذه المثالات ورقها من ديوان الإنشاء من المرتب السلطاني، وإن كان رافع القصة من غير المعتبرين كآحاد الناس، دفع القصة إلى مدير من مدراء ديوان الإنشاء فيجعل عليها علامةً له، ويجمع كل مديرٍ ما معه من القصص، وترفع إلى صاحب ديوان الإنشاء، فما كان منها غير سائغ للكتابة عليه قطعه أو رده، وما كان منها سائغاً كتب عليه وعينه. وربما استشكل بعضها فأخره ليقرأه على السلطان وينظر ما يأمر به فيه فيعتمده. وإذا عينها على كاتب من كتاب الإنشاء كتب بمقتضاها وخلد القصة عنده شاهداً.
النوع الثالث: ما يرفع من القصص بدار العدل:
عند جلوس السلطان للحكم في المواكب وقد جرت العادة في ذلك أنه إذا ترتب مجلس السلطان على ما تقدم في ترتيب المملكة أن القصص تفرق على كاتب السر ومن حضر من كتاب الدست، فيقرأ كاتب السر منها ما عن له قراءته، ثم يقرأ الذي يليه من كتاب الدست، ثم الذي يليه إلى آخرهم، ويشير السلطان برأسه أو يده بإمضاء ما شاء منها، فيكتب كاتب السر أو كاتب الدست على تلك القصة بما فيه خلاص قلمه، ثم تحمل إلى ديوان الإنشاء فيعينها على من يشاء من كتاب الإنشاء فيكتبها، ويخلد تلك القصص عنده شاهداً.
النوع الرابع: ما يرفع منها للنائب الكافل:
إذا كان ثم نائب وقد جرت العادة أن النائب يكون عنده كاتبٌ من كتاب الدست يجلس بين يديه لقراءة القصص عليه، وتنفيذ ما يكتب عنه. فإذا رفعت القصة إلى النائب الكافل قرأها عليه كاتب الدست وامتثل أمره فيها، وأصلح في القصة ما يجب إصلاحه، وضرب على ما يجب الضرب عليه، وزاد بين سطوره ما تقتضيه الزيادة، ثم تدفع القصة إلى النائب الكافل، فيكتب على حاشيتها في الوسط آخذاً من جهة أسفلها إلى جهة أعلاها بقلم مختصر الطومار ما مثاله يكتب ثم تحمل بعد ذلك إلى كاتب السر فيعينها على بعض كتاب الإنشاء فيكتبها.
النوع الخامس: ما يرفع من القصص إلى الأتابك إذا كان في الدولة أتابك عسكر وهو الأمير الكبير:
وغالب ما يكون ذلك إذا كان السلطان طفلاً أو نحو ذلك. وقد جرت العادة أن يكون عند الأتابك كاتبٌ من كتاب الدست أيضاً، فإذا رفعت القصة إلى الأتابك، وإن كان الأمر فيها واضحاً كخلاص حق أو نحوه، كتب كاتب الدست على حاشيتها ما تقتضيه الحال في ذلك من غير قراءتها على الأتابك. وإن كان الأمر فيها غير واضح كما إذا كان الأمر راجعاً إلى منازعة خصمين ونحو ذلك، قرأها على الأتابك وامتثل أمره فيها، وكتب عليها ما برز به مرسومه. وفي كلتا الحالتين جرت العادة في زماننا أنه يعمد إلى أشهر حرفٍ في اسم الأتابك فيرقمه في آخر ما يكتبه أو تحته، كما كان يكتب عن برقوق قبل السلطنة ق وعن إيتمش ش وعن نوروز ن ونحو ذلك.
النوع السادس: ما يرفع منها للدوادار لتعلق عنه الرسالة عن السلطان به:
واعلم أن العادة كانت جاريةً في الزمن المتقدم أن السلطان إذا أمر بكتابة شيء على لسان أحدٍ من الدوادارية، حمل بريدي من البريدية الرسالة لذلك عن ذلك الدوادار إلى كاتب السر فيسمع كلام البريدي ويكتب على القصة إن كانت، أو ورقةٍ مفردة ما مثاله: حضرت رسالةٌ على لسان فلان البريدي بكذا وكذا ويعينه على من يكتبه من كتاب الإنشاء. ولم يزل الأمر على ذلك إلى الدولة الناصرية محمد بن قلاوون فأفرد المقر الشهابي بن فضل الله صاحب ديوان الإنشاء كاتباً من كتاب الإنشاء لتعليق الرسالة، فصار يكتب ما كان كاتب السر يكتبه من ذلك على القصص أو الورقة المفردة ثم ترفع إلى كاتب السر فيكتب عليها بالأمر بكتابتها، ويعينها على من يكتب بمقتضاها، وتخلد القصة أو الورقة التي علقت فيها الرسالة عنده شاهداً له. واستمر ذلك إلى مباشرة القاضي بفتح الدين بن شاس أحد كتاب الدست عند الدوادار، والدوادار يومئذ الأمير يونس النوروزي، فأذن له كاتب السر في تعليق الرسالة عن الأمير يونس الدوادار على ظهور القصص وغيرها ففعل. وكان يكتب على حواشي القصص في وسط القصة آخذاً من جهة اليمين إلى جهة اليسار بميلة إلى الأعلى بقلم دقيقٍ متلاصق الأسطر ما مثاله: رسم برسالة الجناب العالي الأميري الكبيري الشرفي يونس الدوادار الظاهري ضاعف الله تعالى نعمته أن يكتب مثالٌ شريف بكذا أو توقيع شريفٌ بكذا وما أشبه ذلك، ويؤرخه بيوم الكتابة، ثم تحمل إلى كاتب السر فيكتب عليها بالأمر بالكتابة، ويعينها على كاتبٍ من كتاب الإنشاء، فيكتب بمقتضاها ويخلدها شاهداً عنده، وجرى الأمر على ذلك بعده إلى آخر وقتٍ.
قلت: وقد كان في الدولة الفاطمية كاتبٌ مفرد لتعليق الرسالة عن الخليفة، يسمى صاحب القلم الدقيق، يعلق ما تبرز به أوامر الخليفة في الرقاع وحواشي القصص، وتحمل إلى ديوان الوزارة، فيعتمدها الوزير، ويبرز أمره إلى ديوان الإنشاء باعتمادها وكتابة ما فيها، على ما تقدم ذكره في ترتيب الخلافة الفاطمية بالديار المصرية في المقالة الثانية.